شهد العالم خلال العقود الأخيرة موجات واسعة من الإصلاحات الاقتصادية التي استهدفت إعادة هيكلة الأنظمة المالية والنقدية في العديد من الدول، سواء النامية منها أو المتقدمة، وكان من بين أبرز هذه الإصلاحات التحول نحو تعويم سعر الصرف، هذا التحول لم يكن مجرد أداة تقنية بحتة، بل خطوة تحمل معها تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية واسعة، لأنها ترتبط مباشرة بقيمة العملة الوطنية، ومستوى الأسعار، وميزان المدفوعات، وجاذبية الاستثمار الأجنبي، وقوة القطاع الإنتاجي، ومن هنا أصبح النقاش حول هذه السياسة ساحة مفتوحة بين مؤيد يرى فيها فرصة لإنقاذ الاقتصاد، ومعارض يعتقد أنها قد تؤدي إلى نتائج صعبة على المواطنين، خصوصًا الفئات الأقل دخلًا.
إيجابيات وسلبيات تعويم سعر الصرف

يشير مفهوم تعويم سعر الصرف إلى ترك قيمة العملة تتحدد وفق قوى السوق من عرض وطلب بدلًا من ربطها بسعر ثابت أو نطاق ضيق، من الناحية النظرية، يقوم هذا الأسلوب على أن الأسواق قادرة على تحديد القيمة الحقيقية للعملة بشكل أفضل من التدخلات الحكومية المستمرة، وتعد هذه السياسة جزء من منظومة تعتمد على تحرير رأس المال وتسهيل حركة التجارة وتشجيع القطاع الخاص، وهي سياسات ارتبطت بتوجهات العولمة والإصلاحات البنيوية في التسعينيات لكن هذا المفهوم ليس بسيطًا كما يبدو. فالتعويم قد يكون كاملًا، حيث لا تتدخل الدولة مطلقًا، أو يكون مُدارًا، حيث يتدخل البنك المركزي عندما يرى ضرورة لتحقيق الاستقرار.
مرونة السياسة النقدية
عندما تتجه دولة ما إلى تعويم سعر الصرف فإن البنك المركزي يحصل على مساحة أكبر للتحرك في مجال السياسات النقدية، فعوضًا عن استنزاف الاحتياطات الأجنبية للدفاع عن سعر صرف ثابت، يستطيع البنك ترك العملة تتفاعل مع السوق والتفرغ لأهداف اقتصادية أهم مثل التحكم في التضخم وتحقيق الاستقرار المالي، هذه المرونة تتيح للبنك زيادة أو خفض أسعار الفائدة بما يتناسب مع الظروف الاقتصادية المحلية، دون أن يكون مقيدًا بضرورة الحفاظ على مستوى معين لسعر الصرف، ففي الأنظمة ذات الأسعار الثابتة عادةً ما تضطر البنوك المركزية إلى اتخاذ قرارات تبنى على اعتبارات خارجية، خصوصاً إذا كانت العملة مربوطة بالدولار أو اليورو.
تعزيز تنافسية الصادرات

من أهم مزايا تعويم سعر الصرف أنه يمنح الصادرات المحلية قدرة تنافسية أعلى، فعندما تنخفض قيمة العملة، تصبح السلع المنتَجة محلياً أرخص نسبيياً في الأسواق العالمية، مما يزيد الطلب عليها، فهذا التأثير يكون بالغ القوة في الدول التي تمتلك قطاعات صناعية أو زراعية أو خدمية قادرة على الاستجابة السريعة لزيادة الطلب، كما يشجع انخفاض قيمة العملة السياحة الأجنبية، إذ تصبح التكلفة أقل بالنسبة للسائحين، وهو ما يعزز إيرادات الدولة من العملة الصعبة. كذلك تستفيد الشركات المحلية التي تقدم خدمات عالمية مثل تكنولوجيا المعلومات، إذ تنخفض تكلفة العمالة بالنسبة لمتلقّي الخدمة في الخارج. ورغم ذلك يجب التنبه إلى أن هذا التأثير يعتمد على قدرة الإنتاج المحلي، فإذا كانت الدولة تعتمد مفرطًا على استيراد مدخلات الإنتاج فإن انخفاض قيمة العملة قد يرفع تكلفتها ويقلل من الميزة التنافسية المتوقعة.
الحد من السوق السوداء
في بعض الدول يؤدي ترك سعر العملة ثابتاً عند مستويات غير واقعية إلى ظهور سوق موازية لشراء وبيع العملات الأجنبية، وهنا يبرز دور تعويم سعر الصرف في تقليص حجم هذه السوق أو القضاء عليها نهائيًا، فعندما يتحدد السعر وفق العرض والطلب الحقيقيين، تقل الحوافز للجوء إلى السوق السوداء، لأن الفارق بين السعرين الرسمي وغير الرسمي يختفي أو يتضاءل، اختفاء السوق السوداء يساهم في تحسين شفافية الاقتصاد، ويمنح الدولة القدرة على مراقبة حركة الأموال عبر القنوات الرسمية، كما يعزز ثقة المستثمرين.
الضغوط التضخمية
يعد ارتفاع الأسعار من أبرز السلبيات المحتملة لتطبيق تعويم سعر الصرف خصوصًا في الدول التي تعتمد بقوة على الاستيراد، فعندما تنخفض قيمة العملة ترتفع تكلفة استيراد الغذاء والطاقة والمواد الخام والسلع الوسيطة وينتقل هذا الارتفاع إلى المنتج النهائي، مما يؤدي إلى زيادة مستويات التضخم، وهذا الأثر قد يضرب الفئات المتوسطة والفقيرة بشدة، ويؤدي إلى تراجع القوة الشرائية للمواطنين، كما يمكن أن يؤثر على استقرار السوق إذا لم تترافق السياسة مع برامج حماية اجتماعية فعالة أو إجراءات حكومية للحد من الاحتكار، وبالرغم من أن التضخم قد يكون مؤقتًا في بعض الأحيان، إلا أن تأثيره الاجتماعي والسياسي قد يكون كبيرًا، خصوصًا إذا كان الاقتصاد يعاني أصلًا من اختلالات هيكلية.
أثر التعويم على الاستثمارات
من النتائج المحتملة لتطبيق تعويم سعر الصرف زيادة حالة عدم اليقين لدى المستثمرين، نظراً للتقلبات الحادة التي قد يشهدها سعر العملة في المرحلة الأولى بعد التعويم، فالشركات التي تعتمد على استيراد المواد الخام قد تجد نفسها عاجزة عن وضع خطط مالية مستقرة أما المستثمرون الأجانب فقد يترددون في ضخ أموال جديدة خوفاً من تراجع قيمة العملة بما يقلل من أرباحهم عند تحويلها إلى الخارج، ورغم ذلك فإنه على المدى الطويل يمكن أن يشجع التعويم الاستثمارات إذا ترافق مع سياسات إصلاحية واضحة، لأن المستثمر يبحث عن بيئة شفافة، وسعر صرف يعكس القيمة الحقيقية للعملة، واقتصاد أكثر مرونة. وعندما تتوفر هذه الشروط، يصبح التعويم عامل جذب وليس عائقًا.
اقرأ المزيد: تعويم العملة وجذب الاستثمار الأجنبي
التحديات في الاقتصادات ضعيفة الإنتاج

تواجه الدول ضعيفة الإنتاج مخاطر مرتفعة عند تطبيق تعويم سعر الصرف لأن انخفاض قيمة العملة قد يؤدي إلى تدهور سريع في القدرة الشرائية دون وجود صادرات قوية تعوض ذلك. فقد ترتفع فاتورة الاستيراد بشكل كبير، وتتراجع مستويات الاستهلاك، وينكمش النشاط الاقتصادي، ما قد يؤدي إلى حالة من الركود التضخمي، في هذه الحالة تحتاج الدولة إلى بناء قاعدة إنتاجية حقيقية قبل اتخاذ خطوة التعويم، أو على الأقل وضع برامج دعم فعالة لزيادة الإنتاج المحلي في قطاعات أساسية مثل الغذاء والصناعة والدواء، كما يجب تطوير البنية التحتية وتوفير التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة لتقوية الاقتصاد من الداخل.
دعم الاحتياطيات النقدية
عند تنفيذ تعويم سعر الصرف بطريقة صحيحة، يمكن أن يساعد ذلك في إعادة بناء الاحتياطيات النقدية تدريجيًا، ففي فترات الأسعار الثابتة عادة ما تضطر الحكومات إلى استخدام احتياطياتها للدفاع عن قيمة العملة، بينما في نظام التعويم يتراجع هذا الضغط لأن السعر يتكيف مع السوق، ومع الوقت يمكن أن ترتفع تدفقات النقد الأجنبي من السياحة والصادرات والتحويلات، مما يعزز الاحتياطي. وجود احتياطي قوي يمنح الدولة القدرة على التدخل عند الضرورة لتهدئة تقلبات السوق، ويزيد من ثقة المؤسسات المالية الدولية، ويُحسّن قدرة الدولة على الاقتراض بأسعار أفضل.
الإصلاحات المصاحبة
نادراً ما ينطبق تعويم سعر الصرف بمعزل عن إصلاحات أخرى، فغالبًا ما يرتبط بإعادة هيكلة منظومة الدعم، وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع الإنتاج المحلين فنجاح التعويم يعتمد بشكل كبير على هذه الإصلاحات، لأنها تساعد على تخفيف آثاره السلبية وتعظيم فوائده، كما أن الدولة تحتاج إلى تعزيز الشفافية، وإرسال رسائل واضحة للمستثمرين والمواطنين، وبناء منظومة بيانات دقيقة تساعد في اتخاذ القرارات، فالتعويم قد يفشل إذا كان محاطًا بسياسات ضبابية أو غياب الانضباط المالي.
التأثير الاجتماعي
بسبب التأثير المباشر للتعويم على الأسعار، فإن تعويم سعر الصرف قد يسبب صعوبات معيشية على المدى القصير، لذلك يجب على الحكومات توفير برامج حماية مثل الدعم النقدي، وتحسين شبكات الأمان الاجتماعي، وتخفيف الأعباء عن الفئات الضعيفة. التواصل الواضح مع المواطنين مهم جدا، لأنه يقلل المخاوف ويشرح الأهداف بعيدة المدى، كما أن الثقة عنصر حاسم فإذا شعر المواطن بأن الحكومة تدير الملف بمهنية وتضع مصلحته في الاعتبار، يمكن أن تتراجع حدة المعارضة للتعويم، ويصبح المجتمع أكثر استعدادًا لتحمل المرحلة الانتقالية.
في النهاية فإن تعويم سعر الصرف ليس هدفاُ بحد ذاته، بل وسيلة لإعادة ضبط الاقتصاد وهو سلاح ذو حدين، يمكن أن يفتح الباب أمام إصلاحات حقيقية وتنمية مستدامة، ويمكن في الوقت نفسه أن يؤدي إلى أزمات إذا طبق في بيئة اقتصادية ضعيفة أو دون استعداد كافي، ونجاح التعويم يعتمد على قوة المؤسسات، ومرونة الأسواق، ووجود رؤية اقتصادية واضحة، وقدرة الدولة على حماية الفئات الأكثر تأثرًا. وعندما تجتمع هذه الشروط، يصبح التعويم خطوة مهمة في مسار إصلاح طويل قد يغير مستقبل الاقتصاد بشكل إيجابي.



