تطلع سياسات البنوك المركزية العربية بمسؤولية حيوية في إدارة دفة الاقتصادات الوطنية، وتتركز مهامها الأساسية حول تحقيق الاستقرار النقدي والمالي، وهو هدف تسعى لتحقيقه في بيئات اقتصادية غالبًا ما تتسم بتحديات هيكلية داخلية وتقلبات خارجية تؤثر على مسار النمو والتنمية.
يهدف هذا التحليل إلى الغوص في تفاصيل عمل هذه المؤسسات المصرفية المركزية، وسنستعرض الأهداف الرسمية المعلنة لسياساتها، الأدوات المتنوعة التي تستخدمها لتنفيذ هذه السياسات، التحديات التي تواجه استقلاليتها، وتقييم دورها الفعلي في كبح جماح التضخم، مع تسليط الضوء على العلاقة المعقدة بين السياسة النقدية والمالية، وأهمية تعزيز الشفافية والمساءلة.
الأهداف الرئيسية للبنوك المركزية العربية
تتأسس مهام سياسات البنوك المركزية العربية على مجموعة من الأهداف الجوهرية التي تسعى لتحقيقها لضمان استقرار النظام الاقتصادي، كما يُعد استقرار الأسعار المتمثل في مكافحة التضخم والحفاظ على قوته الشرائية، الهدف الأساسي المعلن لهذه البنوك، ويتوازى ذلك مع السعي للحفاظ على استقرار النظام المالي والمصرفي ككل، لضمان سلامة المعاملات وكفاءة الوساطة المالية، وإليك تحليل موقع انفست لأهم تلك الأهداف كالتالي كالتالي:
- الهدف الأساسي المعلن للبنوك المركزية هو تحقيق استقرار الأسعار (مكافحة التضخم) واستقرار النظام المالي والمصرفي.
- بعض البنوك المركزية مثل البنك المركزي المصري، تلتزم بتحقيق معدل تضخم منخفض ومستقر على المدى المتوسط وتعمل على التحول نحو نظام استهداف التضخم المرن، مما يعكس تطوراً في أطر سياستها النقدية.
- على الرغم من التأثير الواضح لقرارات البنوك المركزية على الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، يشير تحليل لبعض التجارب إلى أن هدف خلق فرص العمل أو تحقيق النمو الاقتصادي ليس دائمًا ضمن الأهداف الصريحة والمباشرة لهذه المؤسسات في نصوصها القانونية أو بياناتها الرسمية.
أدوات السياسة النقدية وآليات عملها
تعتمد سياسات البنوك المركزية العربية على مجموعة من الأدوات لتوجيه السياسة النقدية نحو تحقيق أهدافها، تتنوع بين الأدوات التقليدية وغير التقليدية، وتتأثر آليات انتقال تأثير هذه الأدوات بخصائص الاقتصاد المحلي والبيئة العالمية المحيطة، وإليك أهم أدوات البنوك المركزية في تنفيذ سياساتها النقدية:
- تستخدم البنوك المركزية أدوات تقليدية في مقدمتها عمليات السوق المفتوحة، والتي تشمل شراء وبيع الأوراق المالية الحكومية، للتأثير بشكل مباشر على حجم السيولة في النظام المصرفي وبالتالي على أسعار الفائدة قصيرة الأجل.
- تنتقل آثار هذه التغيرات في أسعار الفائدة لتؤثر على تكلفة الاقتراض والاستثمار، ومن ثم على الأسعار طويلة الأجل ومستوى النشاط الاقتصادي الكلي.
- في سياق مواجهة الصدمات الاقتصادية غير المسبوقة، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19، لجأت العديد من البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، بما في ذلك المنطقة العربية، إلى تفعيل أدوات غير تقليدية.
- وقد شمل ذلك التدخل المباشر في سوق الصرف الأجنبي للحفاظ على استقرار سعر الصرف، وتبني برامج لشراء الأصول بهدف توفير السيولة اللازمة للأسواق وضمان استمرار تدفق الائتمان للاقتصاد.
- تتبنى بعض البنوك المركزية أطرًا تشغيلية محددة لتنفيذ سياستها النقدية، مثل نظام الكوريدور الذي يستخدمه البنك المركزي المصري.
- كما يحدد هذا النظام نطاقًا لأسعار العائد لليلة واحدة (سعر إيداع أدنى وسعر إقراض أعلى) للتحكم في تذبذبات أسعار العائد في سوق الإنتربنك وتعزيز فعالية السياسة النقدية.
استقلالية البنوك المركزية بين النص القانوني والواقع العملي
يُعتبر استقلال سياسات البنوك المركزية العربية عن التأثيرات السياسية معيارًا دوليًا لضمان فعالية السياسة النقدية وقدرتها على تحقيق هدف استقرار الأسعار، ومع ذلك يظل تطبيق هذا المبدأ في الواقع العملي يواجه تحديات كبيرة، خاصة في الاقتصادات الناشئة، وهذه أهم معالم استقلالية البنوك المركزية كالتالي:
- يشكل استقلال البنك المركزي، الذي بدأ يترسخ كمعيار عالمي منذ أواخر الثمانينيات، أساسًا لضمان قدرة البنك على اتخاذ قرارات السياسة النقدية بناءً على اعتبارات اقتصادية بحتة بعيدًا عن الضغوط السياسية قصيرة المدى.
- من الضروري التمييز بين الاستقلال القانوني المنصوص عليه في التشريعات والاستقلال الفعلي الذي يعكس واقع الممارسات.
- يتطلب الاستقلال الفعلي وجود إطار مؤسسي يضمن مسؤولية البنك المركزي عن نتائج قراراته، ويحدد أهداف السياسة النقدية بالتشاور الواضح مع السلطة السياسية لتجنب تضارب الأهداف.
التضخم وتحديات ضبطه في الاقتصادات العربية
يعد التضخم أحد أبرز التحديات التي تواجه سياسات البنوك المركزية العربية، ويتطلب ضبطه فهمًا دقيقًا لمسبباته وآليات انتقاله في الاقتصادات العربية التي تتسم بخصائص هيكلية معينة تجعلها عرضة للتأثر بالصدمات الخارجية، وإليك أهم التحديثات التي تواجه الاقتصادات العربية كالتالي:
- يُجمع الاقتصاديون على أن تحقيق معدل تضخم منخفض ومستقر هو شرط أساسي لتحقيق نمو اقتصادي سليم ومستدام، حيث يوفر بيئة مستقرة للتخطيط الاقتصادي والاستثمار.
- يمكن أن تنحرف معدلات التضخم الفعلية عن المستهدفات المعلنة نتيجة لمجموعة من الصدمات الخارجية التي تقع خارج نطاق السيطرة المباشرة للسياسة النقدية.
- تشمل هذه الصدمات التغيرات الحادة في الأسعار العالمية للسلع الأساسية (مثل النفط والغذاء)، التقلبات في ظروف الإنتاج الزراعي، الكوارث الطبيعية، وتعديلات الأسعار المحددة إداريًا من قبل الحكومة.
- تُظهر البيانات وجود علاقة ارتباط قوية بين معدلات التضخم في الدول العربية والتغيرات في الأسعار العالمية، خاصة أسعار النفط والمواد الغذائية.
- يعود ذلك بشكل أساسي إلى ارتفاع المكون الاستيرادي في سلة استهلاك المواطن العربي، مما يجعل الاقتصادات العربية عرضة لانتقال صدمات الأسعار العالمية إليها.
اقرأ المزيد: أهم ملامح الاستثمار في البنية التحتية المصرية
التفاعل بين السياسة النقدية والسياسة المالية
لا تعمل سياسات البنوك المركزية العربية في فراغ بل تتفاعل بشكل وثيق مع السياسة المالية التي تنتهجها الحكومة، يمكن أن يؤدي عدم التنسيق بين السياستين إلى تعارض في الأهداف وتقليل فعالية كل منهما، مما يشكل تحديًا إضافيًا أمام البنوك المركزية في تحقيق استقرار الأسعار، وإليك أهم التفاعلات بين السياسة النقدية والسياسة المالية كالتالي:
- قد تنتهج الحكومات سياسات مالية (مثل الإنفاق الحكومي والضرائب) تستهدف تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو تنموية قد تتعارض في بعض الأحيان مع هدف البنك المركزي في ضبط التضخم.
- هذا التضارب المحتمل يمكن أن يحد من قدرة البنك المركزي على السيطرة الكاملة على التوجهات التضخمية في الاقتصاد.
- يشير تحليل بعض الحالات إلى أن التداخل بين السلطة السياسية والبنك المركزي يمكن أن يكون قائمًا في الواقع العملي، مما يحد من الاستقلالية التشغيلية للبنك المركزي حتى لو كانت النصوص القانونية تمنحه درجة عالية من الاستقلال.
- وهذا التداخل يمكن أن يؤثر على عملية صنع القرار ويجعل البنك المركزي عرضة للضغوط.
أهمية الشفافية والمساءلة في تعزيز الحوكمة
إلى جانب الاستقلالية تُعد الشفافية والمساءلة ركيزتين أساسيتين لسياسات البنوك المركزية العربية الفعالة وبناء الثقة في قراراتها، ولا تقتصر الشفافية على نشر البيانات، بل تشمل الإفصاح عن مبررات القرارات لجميع الأطراف، كما أن المساءلة تحدد بوضوح مسؤولية البنك المركزي والحكومة في تحقيق الأهداف وتقييم النتائج، مما يعزز الثقة ويقلل اللوم غير المبرر.
اقرأ المزيد: السوق السعودي للاستثمار .. بيئة جاذبة ومحفزات استراتيجية
يظهر تحليل سياسات البنوك المركزية العربية أنها تعمل في بيئة معقدة تتطلب توازناً دقيقاً بين تحقيق أهدافها المعلنة والتكيف مع التحديات الداخلية والخارجية, وعلى الرغم من التقدم في تبني أطر حديثة للسياسة النقدية، تظل قضايا الاستقلالية الفعلية، التنسيق مع السياسة المالية، وتعزيز الشفافية.